[size=16]في جمعية ارمينَّا في حي عابدين، احد أحياء القاهرة، يوجد السيد على سالم[2] وهو محاسب متقاعد يبلغ من العمر ثمانين عاماً يتكلم اللغات اليونانية والفرنسية والإنجليزية والعربية بالإضافة الى الفدكا لغته الأساسية التى أشرف على تعليمها لمن استخدموها شفاهياً كى يتمكنوا منها كتابة باستخدام الحروف الهجائية للأبجدية النوبية التى استُخدمت منذ العصور الوسطى.
عندما وصلت الى مقر الجمعية في مساء أحد أيام الأسبوع قبل نهاية شهر رمضان ديسمبر/كانون الأول عام 2001 ، حدث ان تكلم السيد علي مع فؤاد وهو أيضاً محاسب ويدرس لغة الفودكا قائلاً إذا كان بإمكانه فتح جمعية التراث النوبي الواقعة في الشقة المجاورة على أن تكون مقراً لاجتماع خاص مساء الأربعاء . دعا السيد على الكاتب والمثقف المصري المعروف خيري شلبي وكذلك أربعة من روائي النوبة[3] لجلسة ودّية لتسوية خِلاف، فما الذي أدى الى جلسة الصلح تلك التى أُطلق عليها "ونسة" وقد ضمت الزملاء من المثقفين الأصدقاء لحل النزع في جلسة لإحتساء الشاي؟حيث ظل السيد على منتظراً نحو عدّة أسابيع لعقد تلك الجلسة. منذ أن كتب المثقف خيري شلبي في عموده الأسبوعي بجريدة الأسبوع المصرية مقالاً عن الإرهاب في مصر حيث ذكر حادث التفجير الذي وقع في عام 1993 في ساحة القاهرة المركزية التى يُطلق عليها ميدان التحرير. استرجع شلبي ما وقع في مقهى "وداى النيل" التى تُلقّب بـ"قهوة البرابرة". "حدث أن زلَّ قلم كاتبنا خيري شلبي وكتب قهوة البرابرة" هكذا قال الروائي حجاج أدول ثم استطرد ".. فغضب الكثير من النوبيين ولهم أن يغضبوا" (أدول 2001)[4] . استخدام خيري شلبى لكُنية البرابرة المُعلن أشعل كثير من ردود الأفعال المتباينة الغاضبة مِنْ عِدّة كُتّاب نوبيون عارضوا ذِكر تلك الكُنية ،على الرغم من اعتذار شلبي ونهاية تلك الحادثة بالصلح بعد جهود أدول في الكتابة بما أنهى الأمر بجلسة صُلح بعد الاجتماع في جمعية التراث النوبي.
نشأ كُتّاب النوبة أساساً في منطقةِ تمتدُّ عبر جنوب مصر وشمال السودان مما أَطّرَ اعتراضاتهم على تعبير البرابرة (مفردها بربري) الذي يجنح عنصرياً إلى اللون والحقوق المواطنة التى تجلب في أغلب الأحيان اعتراضات النوبيين المتصوَّرة عامة . استخدم وصف بربري تعبير عن الازدراء ويستخدم فيما يُسقط على نوع من الإهانة تحيل إلى اللون لكنه يمكن تطبيقه أيضاً على أي شخص–نوبي أو غيره-كإحالة الى الهمجية أو الحماقة. و تاريخياً استخدم وصف البربري للشخص النوبي أو السوداني الأجوف النازح للعمل في العاصمة، ممن يعملون كمجموعة عُمّال مهاجرون في العاصمة المصرية .
النوبيون ذوو بشرة قاتمة أكثر من المصريين ، وقد تكون إحدى لهجات لغتهم النوبية نابعة من لغتهم الرئيسية الأم. وقد تمت لهم الهجرة من النوبة إلى مدن مصر الشمالية للعمل بداية فى الخدمات العادية لقرون بينما ظلت النساء في الجنوب يسكنّ بيوت القرية(جيزر1986). على أية حال ، أثناء بناء السد العالي بأسوان رحّلت الحكومة المصرية أربعة وأربعين قرية من قرى النوبة القديمة لقرى جديدة شمال مدينة أسوان في عامي 1963-1964 أثناء القرن العشرين. وقد ربح النوبيون اقتصادياً ونالوا الحظوة التعليمية عبر النقلة الحضرية الكبيرة إلى المدينة، ومن ثم الارتحال إلى مكان جديد بينما –في الوقت نفسه- حدثت مأساة تتمثل في نقص الزراعة المثمرة في النوبة، فضلا عن الفقد المُحقق لبيوتهم وقراهم كمحصّلة نهائية لفيضان السد العالي.
كانت المناقشة عن مقهى البرابرة –تحديداً- وكذلك المناقشات التي تماثلها ضمن سياق المواطنة والحقوق. جزء من النوبيين المتحضرين المثقفين يعارضون دمج اللون والطبقة والأصول الجغرافية و هيمنة ذلك التأثير المضطهد المزدوج لهم الذي يجعلهم في انتظار " تأشيرة تبيح لك أن تكون مصرياً ".
أولاً؛ تُظهر الأفكار السائدة عن النوبيين –خاصة- وجودهم كطبقة أدنى أو كجنس تابع ووضعهم داخل الأمة في موقع يجعلهم يمارسون الأعمال الخدمية خاصة حراسة المنازل.
ستستمر دراستى فى طرح بعض الأفكار العنصرية الشائعة التى تقدم تصورات عن النوبيين ناتجة عن عدم الاعتراف بهويتهم المصرية حيث ارتباطهم بتاريخ العبيد فى جنوب الصحراء الإفريقية الكُبرى . وفي مصر هناك وعى شعبي من قِبل المصريين عن النوبة كمكون ثقافي نابع من إفريقيا جنوب الصحراء الكُبرى. على الرغم من الموقع الجغرافي في القارة يتصل بالمناقشات التي تدور حول النوبيين المعاصرين من حيث منزلتهم الاجتماعية وذلك ليس بمنأى عن عملهم فى الأعمال الخدمية (كما سلف)كما أن اقتران العبودية بهم كأفارقة وضعت النوبيين آنياً ضمن أمة متكاملة وحددت مكانتهم في وضع التابع .
قضيت عامين من العمل الميداني الاثنوجرافي[5] لتصوير حالة النوبيين فزرت متحف النوبة وكذلك قمت ببعض الجولات السياحية بين أعوام 1997-2002. وفي أغلب الأحيان كنت أصادف المناقشات في مثل هذه الأمور وأعلم أنني سأجد بعض التصورات العنصرية التي تعترض وجود النوبيين بصورة حسنة في وسائل الإعلام مما يعيد صياغة وفهم واقع النوبيين وفق شروطهم الخاصة دون التوقف أمام المزاعم التي تؤكد أو ربما ترفض وجود التمييز العنصري الذي يهمش النوبيين على الرغم من الطنطنة اليومية التى تظهر في الصحف شبه الرسمية المصرية التي تؤكد وحدة الوطن وان مصر ليست دولة عنصرية وليس لديها انتماءات عرقية أو أقليات. في مثل تلك الظروف تبرز المناقشات العالمية حول الجنوسة[6]، الانتماء العرقي، والأقليات ومُثل الديمقراطية التي تفرض مبدأ المساواة بين المواطنين. في مثل تلك المناقشات تبرز مصر من بين الأمم-على سبيل المثال- مجسدة تاريخ التمييز العنصري الحقيقي(كـ الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا)، وخطر العرقية ، والحركات الانفصالية ( مثل المقاومة الكردية في الولايات المتعددة) أو الفعلية مثل الحرب الأهلية في السودان. عامة، تلك النماذج –بكل تأكيد- تطغى على كل المناقشات حول موضوع العنصرية الذي يمارس ويتكرس تجاه النوبيون في مصر. على الأرجح، أتمنى إمعان النظر في الأمور المعقّدة آنياً وعدم غض الطرف عن التطور التاريخي الذي تمثل في تجسيد المناقشات العنصرية التي استندت أساساً على التلازم التاريخي الاجتماعي بين النمط النوبي الظاهري واللغة والثقافة التي زاوجت بين الطبقة الاجتماعية والجنس.
للمزيد من التوضيح، لون البشرة المصرية يمثل أساس الكشف عن الهوية الشخصية الجماعية مثل "الأسود"-"الأبيض" أو أي لون آخر. والأكثر أهمية الطبقة الاجتماعية ، الإقليم، الدين ثم الأصول العائلية العريقة. والكثافة السكانية أصلا في منطقة النوبة تحوي اختلاف شاسع في لون البشرة وقسمات الوجه، مثل كثير من الملامح التي تسم بقية سكان أقاليم مصر. بدء من بهتان اللون حتى توسّطه سمارً (ما يطلق عليه اللون القمحي) مروراً بالاسم وانتهاء باللون الأسود، وتلك الاختلافات تجعل بعض النوبيين يمتعضون من أن يُنعتون بالأسود عِوضاً عن الأسمر أو أي لون آخر.
النوبيون على امتداد مصر من القاهرة حتى أسوان لا يُنظر إليهم إلا كحاملي البشرة السوداء بما ينتسب إلى من يُقال عنه زنجي أو إفريقي الملامح، على سبيل الذلّة أو المبالغة أو الابتذال أو الأفكار الشائعة التي تدل –ضمناً- على أنهم أفارقة غير مصريين مع دوام التجاهل لوجودهم وحجب الأصول النوبية عن التعريف بها . فضلا عن أنهم يرفضون التسليم جدلاً بأن اللون القاتم يكشف عن البدايات الإفريقية. ومفهومهم هنا يندرج تحت الانتساب إلى الصحراء الإفريقية الكُبرى وليس إلى مصر.
زلة قلم
تعد منطقة عابدين بوسط مدينة القاهرة محور التواجد الاجتماعي للجيل الأول من النوبيين مثل السيد علي الذي ولد وترعرع في إحدى القرى النوبية العتيقة التي وُجِدَت قبل عام 1960 ثم انتقل كثير من النوبيين إلى الإقامة في القاهرة منذ النصف الأول من القرن العشرين عندما هاجر آباءهم وأجدادهم من النوبة سعياً الى مًدن الشمال الوثيرة.
عادة عمِل المهاجرون النوبيون الأولون في الوظائف الخَدمية كأن يكونوا حُرّاس عقارات أو طُهاة في قصور الأحياء الراقية أو في العمارات السكنية الفارهة أو في الفنادق في المدينة التى كان معقلها آنذاك في يد السلطة السياسية. أما الآن، فيجتمع النوبيون في عابدين حيث التجمعات الثقافية النوبية ، وكذلك جمعية قرية أرمينَّا الأهلية التي نشأت بمبدأ الاعتماد على الجهود الذاتية فضلا عن تقديم مساعدات خدمية مادية للنوبيين مثل المساعدة في إخراج جنازة أو تقديم بعض الأشياء الترفيهية او المساعدات التربوية مثل تعليم دروس العربية والإنجليزية. فهو مكان للتجمع الاجتماعي والسعي للتعاون المتبادل بين أبناء النوبة.
الجمعيتان(أرمينا والتراث النوبي) كانتا –لمدة طويلة- معقلا للإيواء الجماعات النوبية المنشقة التى لا تحمل هوية رسمية والتى فرت من النوبة هرباً من فيضان السد وكتعويض مناسب لها ومن العمل في الأعمال الخدمية مثل المداري النوبية –رويداً- منذ العشرينيات من القرن الماضي (صالح-200-ص259-260) .
تأسست الجمعيتان كمركزين مستقلين قبل أن توجد وزارة الشؤون الاجتماعية الحالية التي تسجل كل الجمعيات الأهلية الآن بوساطة مراقب منها مع تقديم إشعار رسمي بدعم مالي بسيط من قِبل الوزارة (للمزيد من التفاصيل عن الجمعيات انظر جريزر 1986 ص199-209- بوسيشك 1996 ص 68-82) تقع الجمعيتان (أرمينا والتراث النوبي) بين منطقتين رئيسيتين ارتبطا إبان عهد الخديو إسماعيل في القرن التاسع عشر في منطقة قصر عابدين ومنطقة ميدان التحرير بوسط مدينة القاهرة، في مبني سكني بعد عدد من المقاهي المزدحمة والمتاجر وكذلك المسجد[7].
حدث اللقاء الذي دعا إليه السيد على جميع المتخاصمين (خيري شلبي والكًتّاب النوبيين) في جمعية التراث النوبي وكان أحد الحضور الروائي النوبي عضو الجمعية حجاج أدول الذي اعتذر لخيري بشكل شخصي في مقال تحت عنوان (خيري الجميل .. لعلك بخير) أو بالنوبية (خيري آشري.. ماس-كاجنا) (أدول 2001). دافع أدول في مقاله عن خيري شلبي كأحد المثقفين المصريين القلائل الذين يحضون باحترام النوبيين عندما كتب أوائل عام 1990 عن الأدب النوبي[8] ومن ثم كان أول من استخدم هذا الاصطلاح مُشيراً إلى نصوصهم، بينما لم يذكرهم نقاد الأدب المصريين سوى بشكل عدائي ومن هنا نُعت هذا الأدب بالعنصري والانفصالي (أدول 1993) وقد اعتذر عن شلبي الذي نعت قهوة النوبيين بقهوة البرابرة ، وقد اعتبر ذلك الخطأ مجرد زلة قلم ذلك لأن خيري شلبي نفسه على خلاف آخرين من المثقفين لم يكن عنصرياً ، وعلى ذلك لم يقصد –فعلاً- أن يؤذى مشاعر النوبيين.
على أية حال، استطاع أدول أن يبرئ شلبي كما جعل أدول ذلك الحدث فرصة لإثارة الانتباه إلى ثلاث قضايا طالما ظلت مؤرقة باستمرار للنوبيين. الأولى؛ استنكاره للاستعباد لأي بشر يحملون البشرة الداكنة (سمراء كانت أم سوداء) خاصة في وسائل الإعلام المصرية. الثانية، ناقش اتهام النوبيين بالانفصالية لأنهم يتكلمون وينمون إحياء إنعاش اللغة النوبية. الثالثة، انتقد أدول إخفاق الحكومة في تعويض النوبيين الذين فقدوا مأواهم في القرى النوبية ومن ثم بدا ترحيلهم منذ 1960.
خلال مقالته انتقل حجاج أدول للحديث عن ثلاث قضايا في لغة معبرة تحمل قدر من الانفعال بالقضية التي يطرحها عن حقوق الموطنة للنوبيين ذلك الحق الذي تجسّد –على حد سواء- مع التحكم الرسمي الإعلامي الذي يتغافل عن لون البشرة ، وحقوق اللغة النوبية على سبيل الاعتراف بها كجزء من التراث الوطني وحقوق النوبيين المدنية وكذلك التعويضات التي كان يجب أن تمنح لهم من قِبل الحكومة المصرية نظراً لفقد مأواهم.
أولا أشار مقال أدول في استهلاله إلى أوائل الستينيات حيث كان التلفزيون المصري يقع تحت سُلطة وزارة الإعلام قائلاً"هل شاهدت مذيع أو مذيعة سوداء في تليفزيون مصر؟ منذ نشأة تليفزيون ماسبيرو الفاضل وحتى الآن لم يقبل أي من أصحاب البشرة السوداء ليعمل كمذيع أو مذيعة. ربما من هو أسمر خفيف، لكن السود، لا. وكأن اللون الأسود عورة تجلب العار على مصر وتفضح افريقيتها. (أدول 2001) . لقد انصبّ جداله على أن لون البشرة الداكن إنما يدل ضمناً على الانتساب لإفريقيا ، مما يؤول إلى خلل اجتماعي مُخزي يجلب العار على مصر وكأن اللون الأسود يجلب الخزي لها ويفضح افريقيتها ثم يستمر أدول قائلاً" علينا أن نصمت وكأننا لسنا مواطنين مصريين، علينا فقط أن نضحي من أجل الوطن الكبير مصر ونؤدي ما علينا من واجبات لكن ليس من حقنا أن نأخذ مالنا من حقوق؟ أو أننا لسنا من نفس المستوى الذي عليه أصحاب اللون القمحي أو الأقرب إلى البياض؟" (أدول 2001).
استمر أدول معرباً عن قلقه لأن بقاء اللغة النوبية مرهوناً بالترجمة وكأن في ذلك ميول انفصالية تؤدي إلى الهجوم على اللغة العربية وتقسيم وعزل النوبة إيذاناً باستقلالها. لكن ذلك –حقيقة- نوع من "الكلام المُرسل" وفي النهاية شدّد على أن الحكومة المصرية يجب أن تلتزم بوعدها الذي يبلغ من العمر أربعين عاماً متمثلاً في تعويض تلك الضحايا الذين رحلوا عن مأواهم بالنوبة جراء بناء السد العالي بعد أن إنهال عليهم الفيضان مما حال دون استقرارهم آنئذٍ. ومن ثم، عُرفوا بالمغتربين أو المهاجرين الرُحّل، ثم لم يتسلموا مأوييهم ويرتحلوا الى النوبة الجدية على الرغم من الوعود الأولية التى ألت بها الدولة على نفسها.
قرر أدول أن إلصاق صفة البرابرة بالمقهي (قهوة البرابرة) إجحافاً مشابه لعدم ظهور ذوات البشرة الداكنة في وسائل الإعلام التى لم تكن بمنأى عن حقوق المواطنة ووطنية النوبيين الذين ضحّوا ببيوتهم ووطنهم من أجل الأمة ، ولم يكن جزاءهم سوى الاتهام بالانفصالية[9].
يقع المقهى[10] الذى حدده خيري شلبي في مقاله بميدان التحرير الذى يرتبط بشارع ممتد حتى ميدان عابدين وأيضاً يقع في منطقة مركزية إلى جوار أحياء مهمة منها قصر النيل والازبكية وكذلك بولاق حيث يذكر التاريخ نزوح معظم النوبيين إليها من أجل العمل والإقامة (جزار1986) . عامة أطلق على هذا المقهى"مقهى البرابرة"نظراً لتردد العُمّال النوبيين والسودانيين عليه، إضافة الى قربه من أماكن عملهم بوسط المدينة وكذلك بأماكن إقامتهم. هكذا تم تداول مُسمّى "قهوة البرابرة" وقد دمغه استقرار مجموعة من النوبيين مكانياً وعنصرياً في الطريق المؤدية إليه، بما يجعل التنافس –حتى اليوم- علنياً لإثبات وجودهم ومن ثم تجاوز تلك الفكرة.
على الرغم من أن الرجال النوبيين المهاجرين كانوا يعملون كأُجريين[11] في الأحياء المصرية المتمدنة وذلك بعد أن انتهى[12] زمن الرقيق/ الاستعباد مع نهاية القرن التاسع عش ، ثم حلَّ النوبيون محلهم في أماكن الخدمة كأجريين حيث حافظت الطبقة الأرستقراطية نفسها على أن يكون لديها النظام الخَدَمي السابق لكن بوساطة النوبيين. ثم أن شَغل النوبيين لتلك الوظائف والظهور عبرها ارتبط في الوعي الشعبي العام أو في العقلية المصرية السائدة بالعبودية أو بما يشبه الرقيق. لذلك، بات طبيعياً "التلازم" بين الاستعباد والأشغال الشاقة فى الذهن العام بما يتناسب بشكل خاص مع ذلك العمل (فيرنا وجيرسير 1973-ص36-37) .
إن تسمية "البرابرة" ترتبط ليس طبقاً للموقع الجغرافي الحضري للقاهرة فحسب؛ بل أيضاً في الإسكندرية ومُدن القناة كعلامة على وضع الطبقة الدُنيا في موقع الخدم لدى الأغنياء والشغل لدى الأرستقراطيين والمحتلين الأجانب.
صورة النوبيين التي أناقشها هم الذين تبعوا نهج البرابرة ، العبيد، الأفارقة أو السود وقد استفحل إنتاج تلك الصورة خاصة في الأماكن المتحضرة التي ترتكز في القاهرة، وتكرسها وسائل الإعلام والجرائد الرسمية وكذلك المتاحف. وفيها يتم مناقشة الحيز الأساسي الذي يحتله هؤلاء النوبيين في المدن وكذلك في الجمعيات الثقافية، على أية حال، فما سأراه هو الذي سيبين إن كان النوبيين مع أو ضد أوضاعهم مفاضلة حسب شغر أماكن إقامتهم وكذلك الطبقة الاجتماعية والجنس.
لا يعزف النوبي على لحن العبودية
هناك لغتان يتحدثهما النوبيون عموماً هما الكنوز والفدكا وهي التي تمثل العلامة البارزة للاختلاف النوبي في مصر، بالإضافة الى بشرتهم القاتمة وتجربتهم المشتركة في الهجرة والترحال.
حجم الكثافة السكانية في مصر كان أساس في صعوبة تقدير عدد النوبيين العجائز ولا يوجد مصدر إحصائي يشير بوضوح الى أن النوبيين معدودين حسب الإحصاءات السكانية المصرية قبل ثورة يوليو 1952. بينما مثّلوا نصف في المائة 5,% من عدد السكّان الكُلّي في مصر عام 1960 وقد خمّن جيسر أن العدد التقريبي للنوبيين المصريين كان 150 ألف نسمة عام 1970 (جيسر 1973-ص86-59) بينما يمكن أن يُقدّر عددهم عام 1993 ثلاثمائة ألف نسمة.
ولأنهم يتكلمون لغتي الكنوز والفدكا لذلك فاللغتان لا قيمة لهما من حيث التداول القواعدي والتاريخي بين النوبيين وغير النوبيين. مقابل تداول اللغة العربية في مصر، على الرغم من أن بعض النوبيين قد يتكلمون بهما منذ دخول الإسلام إلى النوبة خلا الثلاثة عشر أو الخمسة عشر قرناً الماضيين، بينما استبدلت الأبجدية النوبية بأسلوب الكتابة بالعربية في عام 1980، على الرغم من أن أستاذة العلوم الإنسانية عالية رشدي قد وجدت السواد الأعظم من النوبيين يتحدثون بشكل ثنائي اللغة (نوبي/عربي) إلا انها لاحظت تغيّر شديد في أسلوب نطق اللغة العربية الفصحى لديهم (رشدي1991)
إن مجموع الذين يعرفون اللغتين النوبيتين (الكنوز/ الفدكا) قراءة وكتابة قضوا طفولتهم المبكرة في النوبة القديمة فنشئوا طليقي اللسان في إجادة الكلام بلغتهم الأصلية، أغلب هؤلاء الرجال –الذين يعملون في وظائف منها المحاسبين ورجال الأعمال والروائيين- جاءوا إلى القاهرة أساساً للدراسة في المرحلة الثانوية أو للتعليم الجامعي. ربما يكون قبل أو أثناء عامي 1963-1964. ارتحلوا ، تزوجوا من النساء النوبيات ثم استقر لهم المُقام كأُسر في القاهرة. لذا، بات قلقهم شديداً لأن لغتهم الشفوية مُحيت لأنها لا تستخدم سوى في المنازل، كما أن الأجيال الصاعدة منهم لا تتعلمها. لذلك، تعلم الكتابة النوبية لا يحتفظ بوجودها فحسب، بل يثبت بالفعل أنها كانت دارجة فى الاستخدام وليست مجرد لهجة عارضة .
تعلم اللغة النوبية هو المشروع الأول من نوعه في مصر الذي بلغ ذروته لمدة خمس سنوات من قِبل اثنتي عشر متحدثاً من مصر والسودان وقد انتعش استخدام اللغة كمستند دال على النوبة في العصور الوسطى أساساً عند الأقباط واليونانيين ، والكتاب الذي ذكر ذلك انتهى عام 1999 تحت عنوان"تعلم اللغة النوبية بالفودكا والكنوز على التوالي". وكان في الأصل أطروحة لنيل رسالة الدكتوراه للدكتور مختار خليل كبّارة، وفي الأساس كانت أطروحة كبارة عن المصريات ونالها من مدينة بون بألمانيا ومصادره التي استخدمها كانت المخطوطات المسيحية التي ظهرت في العصور الوسطى ومن ثم تناولت النصوص النوبية كي تكشف عن أن الأبجدية يمكن أن تتاح للكتابة بكل اللهجات المعاصرة.