إن أجمل ما في الحب الصادق أن يكون الحب بين الفتى والفتاة جزءًا من حبهما لربهما .. ما الذي يريبك أن يكون حبك لمعشوقتك ممتدًا إلى نهايته ومتلاقيًا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألا يضفي ذلك على حبك قداسة وطهرًا؟! صدقني لا يخاف من هذه المعادلة إلا من أحب الريب ورغب في الدنس، أما وأنت تحب الحب الطاهر البريء... فأبشر فحبك لفتاتك، وحبكِ ـ أيتها الفتاة ـ لفارسِك هو حب ممتد من حب الله تعالى.. بل إنه حب يحبه الله تعالى ويباركه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ...
ولعلى أستطيع أن أبوح لك:
إن من لا يحب الله لا يستطيع أن يحب؛ ببساطة لأنه لا يفهم كيف يحب...
أليس أرقى أنواع الحب وأكثرها رومانسية هو حب الروح... وإلا فإن أحب أحدهم فتاة جميلة وثرية ورشيقة وخفيفة الدم... وقال لك: إنني لا أحبها لكل ذلك إنما أحبها لأخلاقها. أليس من المنطقي أن يكون كلامه محل شك منك ؟!
فهكذا حب الله، إنه ليس حبًّا ماديًّا متجسدًا... لكنه حب لمن لا تراه لكنك تحس بأثره في كل لحظة، ومن يستطيع أن يصل إلى هذا الحب المجرد الراقي... يستطيع حقًّا أن يحب كما ينبغي أن يكون الحب... ليس
حب المصلحة ولا
حب الرغبة في التملك ولا
حب إثبات الذات وإنما الحب المطلق...
الحصول على الحب ليس سهلاليس الحب الصادق هو الحب السهل الذي نراه الآن، أن يتواعد اثنان خِلسة، ويتناقلان كلمات الغزل، والهدايا المعطرة، ورسائل المحمول الملتهبة، ومعها لا مانع من بعض التجاوزات الأخلاقية، ثم ماذا بعد؟ .. لا شيء... ربما لا يتذكر أحدهم عدد من "أحبهن" طبعًا لأنني لا أعتقد أبدًا أنه أحبهن، ربما لا تتذكر إحداهن ـ مجرد تذكر ـ ملامح أول "حبيب" ببساطة لأنه ليس حبيبا، بل أصبح الحب لدى البعض موسميا!! فتجد الفتيات يتحدثن عن الحب في المصيف!!.
الحب الصادق هو هبة ربانية لا تمنح إلا لمن يريد الله أن يسعد أيامه وينير حياته ويطيب عمره.. وهذا ما جاء به حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي قال فيه لعمر الفاروق -رضي الله عنه-: "
أَلاَ أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ المَرْءُ: المَرْأَةُ الصّالِحةُ" . رواه أبو داود والحاكم .
إذًا فالمرأة الصالحة التي يحبها الرجل "
كنز" ... فهل رأيت من وجد
كنزًا... ثم تخلى عنه بهذه البساطة التي نراها... أرأيت من وجد كنزًا وتركه ثم قال: غدًا أعثر على كنز آخر؟!..
والمتأمل أيضا في كلمة "الكنز" يمكنه أن يدرك أن العثور على الحبيب الصادق لا يأتي بالجهد أوالسعي، فإن الكنز هدية من الله توضع في طريقك... وهكذا الحب؛ فهو رزق يسوقه الله إليك في الوقت الذي يراه –سبحانه- مناسبًا..
ما رأيك في رجل ترك عمله وظل يبحث عن "كنز"؟! هل تراه عاقلاً؟! .. وبالمثل فإنك كذلك تسعى في حياتك لكن لا يمكن أن تحصر كل ما تملك من وقت وجهد وفكر في العثور على حبيبتك .. فالله فقط هو الذي بيده المنح والعطاء ولا أحد غيره..
الحب الصادق سيأتيك في الوقت الذي يريده الله وبالكيفية التي يراها سبحانه مناسبة لك..
ولعل مما يؤكد أن الحب منحة إلهية قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن خديجة -رضي الله عنها-: "
إني قد رُزِقت حبها" . رواه مسلم.
فمم تخاف وعلام تعجل إنه رزقك المكتوب لك وحدك لن يناله غيرك.. ما أسعدك أخي وأنت أمرك بيد الله... لا بيد من يغفل أو ينسى، ولا بيد صاحب شهوة يحسدك ويمنعك، ولا بيد ضعيف قد يعجز عن تدبير أمرك.. لكنه بيد ربك.. فلا تقلق .
لا تتنازل عن حبك أبداإذا كان الحب الصادق الحقيقي هو "كنز" لذا فلا تتوقع أبدًا أن أقول لك: لا تحب . أو إن كنت تحب فعلاً أن أقول لك: دعك من هذه المراهقة، أو اترك حبك وتخلَّ عنه، على العكس سأقول لك: عليك بحبك.. استمسك به بكل ما تملك، إن المحب الصادق لا يرضى عن حبيبه بديلا... ولا يرضى أن يفارقه أبدًا... وإذا كان هذا هو الحب إذًا فنهايته واضحة... فليس من طريق سوى الزواج .. فبه وحده يكتمل الحب.. وواهم من يتصور أن الحب ينمو ويترعرع في غير الزواج .
والحقيقة أن هذا هو الصنف الذي أتحدث إليه ( المحبين) أما أصحاب الشهوات الذين يستخدمون الحب كمطية للحرام فلهم حديث آخر في رسالتنا "
الشباب والشهوة" وأما (الخائنون) الذين يستخدمون الحب للإيقاع بالأبرياء والبريئات فلا حديث لهم أساسًا ولعل الله –سبحانه- أن يردعهم بعلمه إن لم يكتب لهم الهداية..
إنني أتحدث إلى من ذاق الحب واشتعل في قلبه وآلمه بين جوانحه.. إلى الذي إذا تذكر حبيبه ارتسم الفرح على ثغره، وعلا البِشْر جبينه.. وتنفس عبيرًا رائقًا .. وأحس بالرضا والطمأنينة تسري في جسده وهدأت روحه.. لا أتحدث إلى من إذا تذكر رفيقه غَلَت الدماء في عروقه وفارت في رأسه ولم يستجب في جسده إلا الطين والتراب..
أتحدث إلى من يرق فؤاده بالحب فيقترب من الله أكثر .. لا إلى من يغلظ بعلاقته هذه وينحدر إلى ظلمة أفكار العصيان ..
إلى الكريم والوفيةأيها الكريم صادق الحب... أيتها الوفية صادقة الحب..
إن الله قد فتح أمام حبكما الباب واسعًا... وما أغلق دونكما شيئًا وهذا هو منهج الإسلام الرحيم... فما جاء الإسلام ليغلق، وإنما ليفتح ويشرح الصدور... ويلين...
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ } [آل عمران:159] . وهو لا يغلق أو يسد الطرق وإنما يرشد ويدل...
{ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } [الأحزاب:4] .
فالإسلام أحل أنواع المعاملات المالية وما حرم إلا الربا، فانظر رحمته... وأحل كافة أصناف الطعام الشهي اللذيذ... وما حرم إلا الخنزير... فانظر كرمه... ومنحك الحرية في آلاف المشروبات اللذيذة وما منعك إلا عن الخمر... فتدبر لطفه ..
وبالمثل فإنه فتح للحب أبوابًا وأبوابًا... وما منع إلا الحب المفضي للزنا -والعياذ بالله- ... ومن منا يرضاه إلا من انتكست فطرته واسود قلبه؟!.
واحة العشاق المتقون هب أنك تحب وقد حيل بينك وبين هذا الحب.. هل أنت تحتقر هذا الحب إلى الدرجة التي لا يهمك معها أن يتحول إلى عداوة وبغضاء.. تخيل أن حبيبتك هذه ستقف يوم القيامة وتقول: أغواني بكذا، ودفعني إلى كذا.. وتقول أنت: لا يا رب هي التي أغرتني بكذا، واتصلت بي يوم كذا. وتصطرخان وتتلاعنان.. أي حب كان هذا؟!. مصداقًا لقوله تعالى:
{ الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [الزخرف:67] . لِم تضع نفسك في هذا الموقف؟! ولِم تهيل القذر على حبكما؟!.
* وهذا ما عرفه هذا المحب العاشق الذي جاءته حبيبته تراوده عن نفسه فقالت:
والله إني لأحب أن أضع فمي على فمك . فقال:
وأنا والله إلا أن ثمة ما يمنعني . فقالت:
وما يمنعك -تظن أنها ظفرت به- كأنها تقول: لا شيء يمنع.. كله يهون.. فقال: قوله –تعالى-:
{ الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } . فتابا توبة نصوحًا فكان أن كتب الله لهما الاجتماع بالزواج.
* وهذا آخر ذكره الأصمعي قيل له:"
ما تفعل لو ظفرت بمن تهوى ؟ " فقال: "
أستر منها ما لا يحبه الله ولا يرضاه" .الحب هو الشمس الساطعةمن الطريف أن يكون الحب لغة مشتق من
"الحبب"، وهو البياض والصفاء والنقاء .. والحب كذلك فليس في الحب أماكن مظلمة، ولا مساحات مهجورة، ولا مكالمات مختلسة، ولا إتيان البيوت من النوافذ!!
الحب الصادق هو أن تسير مع من تحب في حَيِّك وشارعك.. والعيون ترقبكم بغبطة، والقلوب تدعو لكم من صميمها، والأهل يفتخرون بحبكما، إنه الأمان والسكينة.. ما زالت كلمات أحد الأصدقاء ترن في أذني: "بعد أول فسحة لي مع زوجتي وحدنا عقب العقد، شعرت كأن الدنيا كلها تنظر إلينا وأننا نريد أن نوقف كل من نقابله ونقول: لقد تزوجنا.. كنت كلما نظرت إلى زوجتي وهي معي شعرت أن في عينيها نظرة زهو وفخر، وفي شفتيها ابتسامة سعادة ورضا… كأن الدنيا ساعتها قد تعلقت بذراعي…" .
وما أشد التناقض بين هذه الصورة وصورة من يختلس اللقاء... وينتهب الفرصة لإتيان الحرام.. ويسود لقاءهما القلق والتوتر والأنفاس اللاهثة !! .. كيف أهلك أيتها الفتاة إن علموا؟! وكيف موقفك مع الله إن أصابك مكروه؟! كيف ستلجأين إليه؟! بأي وجه ستقابلينه؟! وبأي لسان ستذكرينه؟!!.
وكما يقول مؤلف كتاب
"الحب في الأسرة المسلمة":"إن الحب الحقيقي قد فُقِد عند الشباب وضاعت هذه الكلمة وأصبحت لا ترقي لعالم الروح.. لقد حلَّ محلها الحب المزيف، وتحولت هذه الكلمة إلى باب من أبواب الخداع والمكر للنهب والاختطاف.." .
ليس حبًّا هذا الذي يتم في الخفاء.. ليس حبًّا هذا الذي يجلب انتكاسة الرأس وانكسار العين وخفض الوجه وذلة القلب.. ليس حبًّا هذا الذي نخجل منه .. ونداريه..
الحب كالزهرة لا تنبت في الظلام ولا في هواء ملوث..هل هذا هو الحب؟!أي حب هذا الذي يتحدث عنه البعض؟.. أي حب يريدون؟.. حب الريبة واختلاس النظرات واللمسات...حب الرغبة العارمة التي لا يوقفها شيء؟.. هل هو الحب الذي نراه في "الفيديو كليب"؟ .. حب الرقص المحموم والأجساد العارية؟... هل هو الحب الذي نراه في إعلانات التلفاز التي باتت تربط بين شرائك منتج ما وبين حب البنات للشاب أو إقبال الشباب على الفتاة؟ .. وكأن فتاة اليوم لا همَّ لها إلا ما يجعل شعرها براقًا وبشرتها ناعمة بما يجذب إليها المزيد والمزيد…أي ظلم صارخ هذا.. حين يعتدون على هذه المفردة البريئة
"الحب" ويلطخون أجواءها ويسممون ظلالها...
هل هو ما نراه في عيد الحب ـ هكذا يطلق عليه ـ الشوارع تغص بمن يحمل وردًا أو هدايا وقلوبًا حمراء وغير ذلك... وتتعجب.. فلو أن هذا الكم الضخم من الناس تبادل الحب الصادق الحقيقي النقي، لكانت الدنيا غير الدنيا ولكان المجتمع غير المجتمع... ولكن للأسف كل هذه مظاهر فارغة .. أقرب للرغبة واللهو منها إلى الحب.. وأنا لا أحكم من عندي... ولكن هل مجتمعاتنا فعلاً يحكمها الحب... هل أُناسنا فعلاً يحكمهم الحب... صعب جدًا.. فلو ساد الحب ما رأينا الكذب... ولا الغش ولا الزيف ولا الزور الذي ساد وانتشر.
هل الحب هو الحياة؟!وأقصد بالحب هنا حب الشاب للفتاة، هل يصح أن يصبح هذا الحب هو محور الحياة وأن ينحصر الإنسان فيه ؟ .. انظر إلى محب من هذا النوع -وهو قيس بن المُلَوَّح- يقول:
أمر على الديار...ديار ليلي أقبل ذا الجدار وذار الجدارإن حبًا كهذا قد طغي عليه حتى صادر مروءته وأثَّر في رجولته وقدرته على الاحتمال وحوله إلى طريق من الجنون، يسير فيقبل جدارًا سكنت حبيبته فيه، وأنا لا ألومه على أنه أحب ولكنني ألومه لأنه فقد مروءته وتحول إلى شبح من آثار هذا الحب، فرغم اعترافي بأهمية الحب إلا أنني أرى أنه لا يصح لإنسان أن يمحور حياته كلها على شيء واحد مهما كان هذا الشيء... نفقد آباءنا وتستمر الحياة، وقد يفقد أحدهم عينيه أو أولاده وتستمر الحياة.. فما بالنا نتوهم أن الحياة لن تستمر إذا فشل حب؟!!.
الحب ليس الحياة.. فالحياة متسع زاخر لا يمكن أبدًا أن نجده في الحب ـ على أهميته البالغة ـ لكنه لا يزال مجرد نشاط إنساني من ضمن أنشطة أخرى كثيرة ..
أين الشاب -والفتاة طبعا- من هدفه في الحياة؟!... أين هو من طموحه؟!.. أين هو من عمله؟! أين هو من دراسته؟! أين هو من تطوير نفسه؟! أين هو من علاقاته بأهله وصلة رحمه وعائلته؟!... وبالطبع قبل كل ذلك ومعه أين هو من قضايا وطنه وتحديات أمته؟!.
ولذا لم يكن عجيبا أن يرد أحدهم حين سئل عن الحب بقوله: "
إن لم يكن طرفًا من الجنون فهو السحر" .إن منظومة الأخلاق الغربية قد أعطت للحب مساحة أكبر من حجمه، كما شوهت مفهومه حتى قصرته على العلاقة بين الرجل والمرأة... والأزمة أن الفرد والإنسان يتعرض لما يمكن أن نقول عليه: حملة
تسميم الأفكار حول الحب، فهو يتعرض لآلة جبارة اسمها
صناعة الحب في المجلات والأفلام والأغاني والشوارع... وهي صناعة تدر المليارات ولها إمبراطورية عالمية تعرف أهدافها جيدًا وتروج لها... أدرك ذلك د. ترومان بريل الذي شغل منصب مدير مستشفي لندن النفسي فقال: " إنها أغرب تجارة كُسب منها الملايين فقد شوهوا أجيال الشباب قالوا له: إن الحب ساحر وجميل. فأصبحت كلمة الحب صورة خيالية لا يستطيع الإنسان أن يصل إليها... فيشعر بالعجز ولا يصل إلى الرضا أبدًا" .
واحةعشاق وأبراروآخر أحب لعشر سنين ووعده أهل حبيبته بالزواج ثم خلفوا الوعد وزوجوها آخر فقال له البعض:
ما تفعل إن ظفرت بها ؟ قال:"
لا أفسد عشق عشر سنين بما يبقى عاره وتنشر أخباره، في ساعة تنفذ لذتها وتبقي تبعتها"...ومن هنا كان التابعي الجليل
سفيان الثوري حريصًا على أن يعلم تلاميذه التفكير في عواقب الأمور ومآلاتها، من خلال ترداده الدائم لهذين البيتين:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقي الوزر والعارُتبقى عواقب سوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النارُأشد الخطورة = حب + قلب فارغوالحب إن صادف قلبًا فارغًا تحول الأمر إلى هذه النماذج التي نراها من ذهاب العقل، والأفعال غير المنطقية.. فالفتاة التي لا تتعدى علاقتها بالدين إلا السطحية والقشور، وهي غير مهتمة بدراستها، وما من هواية لديها فلا قراءة ولا اطلاع أو رياضة، ولا طموح حقيقي لها في المستقبل فهي (تعيش أيامها) ولا تعبأ أو تعرف ما يحدث في الغد، وربما لا تعرف أيضا ما يدور حولها في العالم من أحداث، فهي تعجز عن قراءة صحيفة!! .
مثل هذه إن شاغلها أحد... ما المتوقع منها؟! لا بد أنها ستعتبر هذه العلاقة هي هدفها الأسمى ورسالتها الجليلة.. ستظل لهذه العلاقة وتعيش لها فقط دون غيرها، حتى لو لم تكن حبًّا.. لا عجب أن تترك دراستها وتهمل واجباتها لأن هذه الأمور في الأساس على هامش حياتها وهذا ما عبر عنه الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبًا خاليًا فتمكنافمن أحب وهو لا هدف له في الدنيا فطبيعي أن يشعر أن هذه "العلاقة" هي قضية القضايا وهي شغله الشاغل..
إذا أحببت فلن تري عيبًا في محبوبكحتى إن لُفت انتباه المحب إلى نقائص في الطرف الآخر أو سلبيات في شكل هذه العلاقة فإنه لن يعبأ.. ومَن أصدق من الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قال:
"حبك للشيء يعمي ويصم" . رواه أحمد والبخاري.
فالمحب لا يُصَدِّق على محبوبه شيئًا أبدًا، وكم من فتاة قالوا لها: إن الشاب يغويك .. وإنه يتلاعب بمشاعرك. فلم تصدق.. وكم من شاب قالوا له: إن الفتاة تتسلى بك. فلم يتصور.. فالحب يصور الآخر على أنه مثال للكمال فيضفي الحب جمالاً ربما غير موجود.. ومن الطريف في هذا الأمر أن إحدى أشهر قصص الحب العذري العربية هي قصة "كثير وعزة" قال فيها كثير شعرًا كثيرًا يتغزل في محاسنها.. فلما قابلها مرة الحجاج بن يوسف الثقفي تعجب لأنه رآها أقل كثيرًا مما وصفها "كثير" فقال لها: "
ما أنت كما قال كثير" . فقالت: "
لأنه لم يرني بعينيك" . فهي تشير إلى أن عيني المحب تختلف كثيرًا بسبب الهالة التي يضفيها الحب على المحبوب...
الحب اختيار وليس قدرًا..ومن العجيب في أمر الحب أن الإنسان يدفع نفسه إليه - في أغلب الأحوال- فإن الإنسان مجبول بطبعه إلى الميل للرفقة والأنس بالآخر.. وطبق ذلك على الصداقة مثلاً... فأنت ترى أناسًا كثيرين لكن لا تتعمق علاقتك بهم جميعًا إنما تتعمق بمن توثق علاقتك به بيديك وباختيارك: تتصل به تليفونيًا... تكثر من لقائه... تهاديه... تفكر فيه... تنبسط معه وتمازحه... تتعرف على ظروفه وأحواله.. تعرف أخلاقه وصفاته .. وهكذا إلى أن يصل إلى أن يكون من أفضل أصدقائك…
ونفس الأمر بالنسبة للحب.. فإن الإنسان غالبًا ما يدفع نفسه نحو الحب بتفكيره بالآخر وتوطيد صلته به إلى أن يمتلكه الحب تمامًا وهذا ما قاله الشاعر:
خيالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيبإن مثل هذا الإنسان كيف سيعيش إن كان "حبيبه" يحاصره أو بالأصح هو يحاصر نفسه بحبيبه فكل حواسه مشغولة به... ولن يغيب عنه أبدًا لأنه تمحور حوله تمامًا...
إذًا فأنت مسئول عن تسلل الحب ثم اشتعاله في قلبك... ولو اشتغلت بغيره أو همشته في بداياته لنجحت في صده... إذًا فليس الحب قدرًا محتومًا أبدًا، لا كما تصوره الروايات والمسلسلات، إلا في القليل النادر.
وأعجبني جدًا ما قاله أحد العلماء في الإجابة على هذا سؤال:
هل الحب اختيار أم إجبار؟ فقد قال: إن الحب كالمسكر.. فالإنسان مخير أن يذوقه أم لا... لكنه بعد أن يختار تسلب إرادته وتكون كل أفعاله بلا وعي...
وهكذا الحب فإن الوقوع فيه اختيار... والمضي في طريقه اختيار.. فإذا تمكن من القلب فإن ما جاء بعده يكون شيئًا أشبه بالإجبار... فهل إذا أتى الإنسان من جراء حبه بما يغضب الله نقول: إنه مضطر ولا وزر عليه؟!.. بالطبع لا؛ فإنه سيُحاسَب؛ لأنه أوقع نفسه فيه ووثقه في قلبه ..
هذا فيمن فعل من المعاصي ما يشين هذا الحب، ومن روعة الإسلام أن العلماء قد فرقوا بين هذه الحالة وبين من أحب لكنه لم يبُح وكتم ذلك في قلبه، بل إن حديثا للرسول -صلى الله عليه وسلم- وصل بالعاشق الذي عف وكتم وانتهى عن الحرام إلى مرتبة الشهادة، فعن ابن عباس قال: قال صلى الله عليه وسلم: "
من عشق فكتم وعف فمات، فهو شهيد" رواه ابن ماجه . وهنا فإن العلماء يفرقون بين من أحب في الحلال و تعلق في ظل رضا الله بزواج أو ارتباط مثلا ثم لأسباب من هنا وهناك فُرِّق بين الحبيبين... فإنهما لا يُلامان إذا تحركت قلوبهما لبعض الوقت.. غير أن الدلائل الواقعية من حولنا تشير إلى أن الأيام كفيلة بتضميد الجراح إذا عزم الإنسان وكف عن تحريك هذه العواطف في قلبه من حين لآخر، ومن هذا ما سُئلت عليه إحدى النساء المحبات عن الحب فقالت: "هو كالنار في أحجارها، إن حركته أورى – اشتعل- وإن تركته تواري" .